عرض حول موضوع :
حماية المستهلك في التجارة الإلكترونية
أولا: الإطار العام للموضوع
ساهمت وتيرة المد التكنولوجي المتصاعدة خلال الأونة الأخيرة في إحداث جيل جديد من القضايا والموضوعات الراهنة؛ والتي تتميز بجدتها وحداثة الوسط الذي تتخذه مجالا لبلورة تطوراتها وإنماء تفاعلاتها. وقد أدى التفاعل الحاصل بين تكنولوجيا الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات إلى ما نشهده اليوم من ثورة معلوماتية الكترونية أرخت بظلالها على كافة ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية.
وتعد شبكة الانترنيت السبب الرئيسي لانطائق الثورة التكنولوجية؛ فقد شكل الوسط الالكتروني المجال الخصب لنمو بذرتها واخضرار عودها، والبيئة اليسيرة والمتاحة أمام العموم لولوجها والرفع من فاعليتها بحيث أدت هذه الشبكة إلى تجاوز الحواجز الجغرافية بين الدول، وغدا المنتظم الدولي بظهورها أشبه بقرية منه لعالم.
ولعل من أبرز نتائج الثورة التكنولوجية أن حل نظام المعاملات الافتراضية بدل المعاملات التقليدية الواقعية فدورها لم يقتصر فقط على خلق الفضاء الأمثل لتكسير الحدود الجغرافية، بل تعدى ذلك لتعمل على تجسيد مظاهر الحياة اليومية والمعاملات الإنسية على شبكتها الرقمية.
وتعتبر التجارة أوضح تجل للمعاملات البشرية وأبرز مظهر من مظاهر التواصل والتعاقد المبني على إرادة طرفي المعاملة. ولذلك تم تجسيدها على الشبكة المعلوماتية لتنتقل التجارة من مجالها الأصلي لتشغل المجال الرقمي، وتنتقل محلات التجارة و أشخاصها من أسواقها وميادين استثمارها لتجعل من السوق الافتراضي محلا لها.
وتعد التجارة الالكترونية نظاما الكترونيا يتيح التعامل في تبادل السلع والخدمات بطريقة رقمية ترتكز على استخدام تكنولوجيا المعلومات عبر شبكة اتصال دولية تسهل تنفيذ العقود المتعلقة بهذه السلع والخدمات وتتميز مقارنة بالتجارة العادية بسرعتها ومرونتها في تنفيذ عقودها وإجراء بيوعها، كما تختص بزيادتها لفرصة التسوق الفعال وإرضاء اختيارات المستهلك ورغباته، ناهيك عن توفيرها الوقت والجهد على المستهلك ابتداء من التفاوض وإبرام العقد إلى الدفع الالكتروني وتسلم المحل موضوع عقد التجارة الالكترونية.
وتؤدي ممارسة التجارة الالكترونية إلى إقامة العلاقات المتواصلة بين كل من المنتج أو مورد الخدمة وبين المستهلك، وذلك بالنظر لاختصارها عامل الوقت وطيها لمعالم الزمان والمكان بين كل من البائع والمشتري؛ ففضلا عن كونهما يستطيعان تبادل المعلومات وطرح الاستفسارات وتلقي الإجابات بصورة سهلة ويسيرة ومستمرة في كل ما يتعلق بهذه المنتجات أو الخدمات، فإن التجارة الالكترونية تساهم أيضا في خلق ما يسمى بظاهرة الإنتاج عند الطلب؛ والتي تتأتى نظرا لسهولة الاتصال بالعملاء ومعرفة أذواقهم واحتياجاتهم، مما يؤدي إلى تطوير المنتوج أو الخدمة حسب توجهات وتطلعات هؤلاء الزبناء والمستهلكين.
إلا أنه بالرغم مما تقدمه التجارة الالكترونية للمستهلك من مزايا، ففي المقابل تترصده بمجموعة من المخاطر التي تجعله عرضة للتلاعب بمصالحه ومحاولة تضليله وخداعه من أجل الظفر بأكبر ربح ممكن نتيجة الإيقاع به والإخلال بالتوازن العقدي المفترض قيامه بينه وبين المورد أو المنتج.
وبالتالي، فالمستهلك يعتبر في إطار علاقته الالكترونية مع المهني طرفا ضعيف الخبرة ومحدود الإمكانيات وقليل الدراية بخبايا وخصوصيات التعاقد المبرم بطريقة الكترونية وما يكتنفه من مخاطر، سواء على مستوى التكوين أو في ظل تنفيذ العقد التجاري وما يتبعه من آثار. وهو ما يقتضي توفير الحماية اللازمة للمستهلك بشكل يثبت الثقة في التعامل الالكتروني ويعيد التوازن العقدي لاكتماله وأمنه.
وقد عرفت حماية المستهلك في عقود التجارة الالكترونية تطورا ملحوظا نظرا للتنظيم القانوني الذي خصه المشرع المغربي لهذا الموضوع، ولعل أبرز إطارين يعملان على ضمان الحماية القانونية للمستهلك الالكتروني في مختلف مراحل العقد هما القانون القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك، والذي يعتبر حجر الزاوية من أجل بت الثقة في صفوف المستهلكين على الإقدام على هذا النوع من التعامل وقانون التبادل الالكتروني للمعطيات القانونية؛ نظرا لكون التجارة الالكترونية تقوم في واقعها على أساس التبادل الالكتروني للمعطيات بين المستهلك والمنتج.
وإضافة إلى التشريعات الوطنية المنظمة للموضوع، فقد تناولته بدورها مجموعة من التوجيهات والتوصيات والنظم القانونية الدولية المهتمة بوضع تنظيم متجانس ودولي لحماية المستهلك من مخاطر عقود التجارة الالكترونية. ولعل أبرزها قانون الأونسيترال النموذجي بشأن التجارة الالكترونية، والتوجيه الأوروبي المتعلق بحماية المستهلكين في مجال العقود المبرمة عن بعد رقم 27/97
ثانيا: الإطار المفاهيمي للموضوع
أ: الحماية
إن المقصود بالحماية في دراستنا، الحماية اللازم توفيرها للمستهلك في التجارة الالكترونية؛ وتعني مختلف الضوابط والضمانات القانونية الكفيلة بالذود على المستهلك وضمان حقوقه والحد من التعسف الممارس ضده سواء خلال المرحلة التكوينية لعقود التجارة الالكترونية أو المرحلة التنفيذية لها.
ولعل أهمية هذه الحماية تكمن في دورها الكبير في إقرار التوازن العقدي بين طرفي العلاقة التعاقدية.
ب المستهلك
تبرز أهمية تحديد مفهوم المستهلك في اعتباره مركز الدراسة ومحط الحماية، وبالتالي، فمن الضروري تبيان المقصود بالمستهلك حتى يثبت العلم بهويته وصفته.
والجدير بالذكر أن مفهوم المستهلك لم يكن محل تحديد لا من قريب ولا من بعيد قبل صدور القانون رقم 31.08، مما جعل أمر تحديده بين يدي الفقه، والذي انقسم إلى فريقين، فريق يأخذ بمفهوم ضيق للمستهلك، وآخر يأخذ بمفهوم أكثر اتساعا.
أما تعريف المستهلك حسب المفهوم الضيق فيضم كل شخص يتعاقد بهدف إشباع حاجاته الشخصية أو العائلية وبالتالي فلا يكتسب صفة المستهلك من يتعاقد لأغراض مهنته أو مشروعه.
بينما يتجه المفهوم الواسع للمستهلك ليقر صفة الاستهلاك على كل شخص يتعاقد بصفة الاستهلاك، سواء أكان التعاقد بهدف إشباع حاجاته الشخصية أو العائلية، أو إشباع أغراضه المهنية والتجارية، أو هما معا.
وقد أخذ المشرع المغربي بالمفهوم الضيق للمستهلك، وذلك بنصه في الفقرة الثانية من المادة الثانية من القانون رقم 31.08 على أنه : " يقصد بالمستهلك كل شخص طبيعي أو معنوي يقتني أو يستعمل لحاجياته غير المهنية منتوجات أو سلعا أو خدمات معدة لاستعماله الشخصي أو العائلي".
ج: التجارة الالكترونية
على الرغم من أن المشرع المغربي لم يعرف التجارة الالكترونية، إلا أنه يمكن القول بأن التجارة الالكترونية وفقه هي ممارسة الأعمال و الأنشطة التجارية التي نصت عليها المواد من 6 إلى 10 من مدونة التجارة بوسيلة إلكترونية على سبيل الاعتياد أو الاحتراف. كما يمكن تعريفها بأنها عملية بيع وشراء و ترويج و تبادل السلع و الخدمات وإتمام صفقاتها عن بعد ، من خلال استعمال شبكة الانترنيت
كما يمكن تعريف التجارة الالكترونية أيضا بأنها التجارة التي تستند على التبادل الالكتروني للمعطيات لممارسة النشاط التجاري، والتي تتم غالبا عبر شبكة الانترنيت.
ثالثا: أهمية الموضوع
يكتسي موضوع حماية المستهلك في التجارة الالكترونية أهمية بالغة بسبب التطور المستمر الذي يعرفه مجال المعاملات التجارية الالكترونية، ونظرا لحداثة الموضوع وأهميته فقد وقع الاختيار على دراسته على اعتبار أنه من المواضيع التي احتدم حولها النقاش القانوني وأصبحت تطرح نفسها في الوقت الراهن بشكل كبير. وتنقسم أهمية الموضوع إلى أهمية قانونية، وأخرى اقتصادية.
أ: الأهمية القانونية: تبرز الأهمية القانونية للموضوع من خلال انفتاح القانون على هذا النوع من المعاملات التي تتطلب مواكبة خاصة ومسايرة لخصوصياتها وأحكامها. إضافة لكون نطاق حماية المستهلك لا يشمل فقط القانون القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك وقانون التبادل الالكتروني للمعطيات القانونية، بل يتعدى ذلك ليشمل مختلف القوانين الأخرى، ولاسيما القانون المدني والقانون الدولي الخاص الأمر الذي يطرح معه إمكانية استيعاب الإطار العام لهذه القوانين للطبيعة الخاصة التي تتسم بها عقود الاستهلاك.
وما يزيد من الأهمية القانونية للموضوع، هو كون عقود التجارة الالكترونية تخترق الحدود المكانية لكل دولة، وتجعل المستهلك يتجول بين أكثر من نظام قانوني واحد، وهو الذي سيتضح معنا من خلال مختلف التنظيمات التشريعية للموضوع.
ب: الأهمية الاقتصادية: لا شك أن موضوع حماية المستهلك في التجارة الالكترونية يستحوذ على أهمية اقتصادية كبرى، والتي تنبع من خلال سيطرة الشركات الكبرى على الخدمات التي تقدم عبر الانترنيت، حيث أصبحت الأسواق الالكترونية عرضة لتحكم العرض والطلب. ولذلك فحماية المستهلك الالكتروني تأتي من كونه هو الطرف الأقل خبرة ودراية بالتعاملات الالكترونية والأضعف قوة في المعادلة الاقتصادية. كما أن التجارة الالكترونية أصبحت تشكل ثورة حقيقية في مجال الاقتصاد؛ مكنت العالم من التواصل والتفاعل تجاريا وتحقيق منافع هامة على مستوى التبادل التجاري.
رابعا: المناهج المعتمدة
من أجل الإحاطة بموضوع حماية المستهلك في التجارة الالكترونية، قمنا بالاعتماد على المناهج العلمية التالية:
أ: المنهج التحليلي: سنعمد من خلال توظيفنا للمنهج التحليلي تحليل النصوص القانونية المنظمة للموضوع، وإجراء مقاربة نصية بين دلالاتها وما تتميز به المعاملات الالكترونية من خصوصيات تتطلب مواءمة وملاءمة مقتضياتها مع التطورات الحاصلة. إضافة لمحاولتنا استخراج مختلف المقتضيات الحمائية التي قررتها مختلف التشريعات للمستهلك.
ب: المنهج الوصفي: تقوم هذه الدراسة على المنهج الوصفي باعتبار حماية المستهلك في التجارة الالكترونية تتطلب وصفا دقيقا لحقوقه والتزامات المورد أو المنتج تجاهه، إضافة لكون التجارة الالكترونية وعملية التعاقد المبرم عن بعد تقوم على مجموعة من الإجراءات والأساليب التقنية، والتي يصعب فهمها دون وصفها وتحديد المقصود منها.
ج: المنهج المقارن: سنلجأ لاعتماد المنهج المقارن في أجزاء مختلفة من هذه الدراسة، وخصوصا المرتبطة منها بتحديد المفاهيم وتبيان الآثار المترتبة عن التعاقد الالكتروني. وذلك نظرا لكون الموضوع قد لاقى تنظيما تشريعيا كبيرا ، سواء من طرف التشريعات الوطنية أو التشريعات الدولية أو التوصيات والتوجيهات المنظمية ومرد ذلك البحث على أنجع القواعد الحمائية المرصودة للمستهلك في التجارة الالكترونية.
خامسا: إشكالية الموضوع
تعتبر حماية المستهلك في التجارة الالكترونية موضوعا في غاية الأهمية، وذلك نظرا لطبيعة المعاملات الناشئة في هذا الوسط، وطبيعة التعاقد بين طرفي العقد، والذي يتم دون حضور مادي لهما؛ بحيث يسهم في بروز عدة تفاوتات بين المورد والمستهلك، والمرتبطة أساسا بسلامة إرادة المستهلك أثناء التعاقد من عدمه، وبخطر اختلال التوازن العقدي بينهما وما يترتب عليه من آثار وخيمة سواء أثناء إبرام عقود التجارة الالكترونية أو أثناء تنفيذها. وهو ما يثير التساؤل حول مدى إمكانية تحقيق حماية فعالة للمستهلك بما يتلاءم وخصوصية عقود التجارة الالكترونية، ومدى كفاية المقتضيات القانونية المحددة لمظاهر هذه الحماية في ضمان التوازن العقدي بين الطرفين.
وحتى نتمكن من معالجة هذا الإشكال ونناله بالدراسة والتحليل، لا غنى لنا عن طرح التساؤلات التالية:
- إلى أي حد ساهمت القواعد القانونية في تحقيق حماية فعالة للمستهلك سواء عند وفائه بقيمة العقد أو عند توصله بمحله؟
- كيف يمكن إثبات معاملات الاستهلاك الالكتروني وما الإطار الذي يخضع له العقد التجاري الالكتروني عند حصول النزاع؟
- هل ساهمت بالفعل التشريعات الوطنية والمقارنة في وضع أسس قانونية يمكن الاستعانة بها من أجل تحقيق التوازن العقدي وتصحيح العلاقات بين الأطراف في مجال عقود التجارة الالكترونية؟
سادسا: خطة البحث
ترتيبا على ما تقدم، ومن أجل نيل غايات هذا البحث وتحقيق مقاصده، وحرصا على أن تتسم دراستنا قدر الإمكان بالدقة العلمية، وبغية حصر إشكالاتها القانونية والعملية ... فإنه يتعين علينا الإحاطة بضوابط حماية المستهلك عند تكوين عقود التجارة الالكترونية، وذلك من خلال تبيان مظاهر هذه الحماية سواء في المرحلة التمهيدية أو المرحلة التعاقدية، ومن تم تحديد الضمانات المؤطرة لحماية المستهلك خلالها. كما يجدر بنا التطرق لضوابط حماية المستهلك في ظل الآثار المترتبة على تنفيذ عقود التجارة الالكترونية، سواء ما يرتبط فيها بالوفاء الالكتروني، أو بالتزامات التاجر أثناء وبعد التسليم، إضافة لضمانات حماية المستهلك عند الإثبات أو تسوية منازعات عقود الاستهلاك الالكترونية.
وبناء على ما سبق، فإن خطة دراستنا تتحدد كالتالي:
الفصل الأول: حماية المستهلك عند تكوين عقود التجارة الالكترونية
الفصل الثاني: حماية المستهلك في ظل الآثار المترتبة عن تنفيذ عقود التجارة الالكترونية